مبادرات نسائية في تعليم الفنون الحرفية: المدرسة اﻹلهامية

 

حسين الحاج

تحدثت في تدوينة سابقة عن طبيعة التعليم الفني داخل نظام طوائف الحرف في القرن التاسع عشر، وذكرت أن جمعية العروة الوثقى اﻹسلامية أنشئت باﻷسكندرية عام 1904 مدرسة محمد على الزخرفية المعمارية والتي تعتبر نقطة البدء في التعليم المؤسسي الحديث للفنون الحرفية في مصر، فمع تصاعد الوعى القومى بمقاومة المستعمر البريطانى، وتأكيد السمات المميزة للهوية المصرية، اتجه بعض النبلاء ورجال السياسة والثقافة والاقتصاد من المصريين، إلى تشجيع كل ما هو مصرى وشرقى وعربى وشعبى. وشارك رموز الوطنية المصرية فى هذا التوجه. وقد روجت جرائد مثل المقطم القاهرية ووادي النيل السكندرية للمعرض الذى أقيم فى الإسكندرية للصناعات المصرية التقليدية، فكتب ثابت أفندي ثابت في جريدة المقطم يقول: “وفى 15 أغسطس 1916 أقامت لجنة ترقية الصنائع المصرية عرضاً للصناعات المصرية التقليدية بحديقة رشيد فى الإسكندرية، افتتح المعرض سلطان مصر ومن أصحاب السمو الأمراء ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس وأعضاء لجنة ترقية الصنائع وجمهور كبير من المصريين وكبار أصحاب المصانع المصرية ومن بين الحضور كان طلعت باشا حرب وأعجب السلطان بأعمال النجارة الدقيقة المطعمة بالفضة والذهب والعاج والصدف من صنع المعلم أحمد البقرى، وقرر السلطان إدخال ثلاثينأم المحسنين الاميرة امينة هانم الهامي قطعة من إنتاج البقرى لسراياته وأشار إلى ضرورة تشجيع المصريين على فرش منازلهم بالأثاث الوطنى”.
ومنذ فجر الحركة الفنية الحديثة في مصر، الذي تفتح مع بدايات القرن العشرين وإنشاء مدرسة الفنون الجميلة وتوالي معارض طلابها وخريجها لعبت المرأة دورًا مهمًا في تلك الحركة، وشكلت رعاية الفنون المجال الأول لنشاط المرأة. فقامت كل من السيدتين هدى هانم شعراوى وأمينة هانم إلهامى برعاية الصناع الشعبيين وتشجيعهم على بعث الحرف فى مختلف مجالات الفنون التطبيقية.
بزغت فكرة إنشاء مدرسة متخصصة لتدريب صناع علي مهارات جديدة وبتقنية محترفة، وتبلورت الفكرة علي يد الأميرة أمينة إلهامي في 11 ديسمبر سنة 1911، وذلك عندما عينت الأميرة أحد أشهر عمال الصدف في مصر آنذاك وهو محمود عزب لإصلاح وترميم بعض قطع الأثاث في قصورها، والذي كان يستعين بدوره بأدق الصناع المكملين له من نجارين وخراطين وصدفجية وغيرهم، ولما حاز هؤلاء الصناع المهرة الذين تضاءل عددهم كثيرا في البلاد علي إعجاب الأميرة ومسئولي دائرتها، قفزت فكرة الإفادة من خبرات هؤلاء الصناع بدلا من تسريحهم، وخاصة أن الأميرة كانت تهوي اقتناء الأثاث الفاخر، فأشار عليها وكيل دائرتها محمود فهمي باشا بالاستفادة من هؤلاء الصناع المهرة في تعليم وتوريث حرفهم في مدرسة لتعليم اليتامي والفقراء، وساعده علي تحقيق الفكرة أن الأميرة كانت وصية علي وقف جدتها بنبا قادن والدة عباس الأول وكانت الحجة تنص علي إنفاق جزء من هذا الوقف علي شئون التعليم فتبلورت الفكرة لديها لإنشاء مدرسة صناعية تحقق ذلك الغرض ويقوم تلاميذها بتعليم تلك الحرف الأصلية علي يد الصناع المهرة، وما لبثت أن انطلقت الفكرة إلي حيز الوجود وانتقلت هذه الأيدي الماهرة مع رئيسها محمود عزب والذي أصبح ناظرا لهذه المدرسة إلي مبني بالقاهرة وذلك في سنة 1913، فجمعت الأميرة بذلك بين شروط الوقفية التي كانت وصية عليها وبين إيجاد هيئة صناعية تقوم بإنتاج جميع ما تحتاج إليه من مشغولات وقتما تشاء، وسميت بالمدرسة الإلهامية نسبة إلي والد الأميرة إبراهيم إلهامي باشا.
بنيت المدرسة الإلهامية لتستوعب ورش النجارة والصناعات المختلفة الأخري، ولتستوعب أيضا زيادة عدد المعلمين والتلاميذ في المستقبل، فكانت مبانيها واسعة. وكانت المدرسة تتسلم التلاميذ من أهاليهم وتقوم علي تربيتهم وتعليمهم الصناعة, كما كانت تطعمهم وتكسوهم وتمنح الممتازين منهم أجورا شهرية، وكانت المدرسة تشترط في قبول تلاميذها بألا يتخطوا الأربعة عشر عاما عند التحاقهم بالمدرسة، وأن يكونوا أيتاما أو فقراء أو موصي عليهم وأن يملأوا بياناتهم في الاستمارة ويصدق عليها من شيخ الحارة الذي يتبع مقر سكنهم، هذا إلي جانب توقيعهم علي استمارة يتعهدون فيها ألا يتركوا المدرسة قبل مضي خمس سنوات، وألا يطالبوا بأية أجور خلال ثلاث سنوات, مع توقيع الكشف الطبي علي التلميذ المتقدم من طبيب الدائرة للتأكد من لياقته الصحية لتعلم تلك الصناعات، وكانت تجمع هذه الأوراق داخل دوسيه خاص باسم الطالب موقعا عليه من ناظر المدرسة بقبوله، ثم يحدد له القسم أو الصنعة المناسبة، ويصرف له الزي المدرسي في الحال.
ولم تكن بالمدرسة سنوات محددة كالسنة الأولي أو الثانية أو الثالثة، بل كانت تلك المدة مرهونة بمدي حصول التلميذ علي مستوي مناسب في الحرفة, وعلي مدي استيعابه لفنونها، فالدراسة كانت غير محددة بسنوات معينة بل بالوقت اللازم الذي يستغرقه كل تلميذ علي حدة، ليصل إلي درجة مناسبة من التعلم والقدرة والكفاءة في حرفته، وكان عدد من المعلمين يقومون بتعليم التلاميذ المبتدئين، في حين يقوم فريق آخر منهم بتعليم التلاميذ الذين اكتسبوا بعض المهارات البسيطة، وفريق ثالث يقوم بتعليم التلاميذ ذوي المستوي الأعلي. وأضحت المدرسة الإلهامية واحدة من أهم المدارس التي يفتخر بها الطلبة والمعلمون، لما اشتهرت به من مستوي رفيع وتعليم عال.
وظلت المدرسة تؤدي رسالتها حتي وقع النزاع بين أفراد الأسرة الحاكمة، الذي استمر مدة طويلة أمام القضاء، اضطربت خلالها أحوال المدرسة وشعر المعلمون والتلاميذ والمسئولون بالخطر والقلق علي ما ستسفر عنه الأمور، فظهرت خلال سنوات التقاضي ثغرات حادت عن الطريق السليم الذي اتبعته المدرسة من قبل. إلى أن آلت المدرسة الصناعية الإلهامية لإدارة الأوقاف الملكية، ومحت اﻹدارة اسم الإلهامية وأبدلته إلي مدرسة بنباقادن الصناعية نسبة إلي صاحبة الوقف الأصلية، وعين الملك فؤاد محمد حسنين الموظف بالأوقاف الملكية ناظرا عليها، إلا أن العمل بالمدرسة اضطرب مما أسفر عنه فصل عدد كبير من المعلمين هذا إلي جانب هجرة بعضهم نتيجة للمكافآت الضئيلة التي كانوا يتقاضونها. وظل الحال يجري من سيئ إلي أسوأ حتي ورد من إيطاليا صالون فخم للملك فؤاد أرسله إلي البقية المتبقية من معلمي المدرسة لتجميله بأشغال التطعيم علي الطراز الفرعوني، وكان ذلك ختام أعمال المدرسة، فلما انتهوا منه في شهر ديسمبر سنة 1929 كانت المدرسة قد صفيت جميع أعمالها، وبيع بالمزاد العلني ما تبقي بها من خامات وأدوات وأشغال غير مكتملة، وبحلول عام 1930 كانت المدرسة الصناعية الإلهامية قد باتت في ذمة التاريخ.

1654_xoyzxwhs
هدى شعراوي

وفي عام 1927، أسست هدى شعراوي مصنع الهدى للخزف فى منطقة روض الفرج لتشجيع الشباب على كسب العيش من خلال تعلم فن الفخار التقليدي وبيعه في اﻷسواق الباريسية، ورغم أنه اكتفي بزخرفة أواني الفخار التي يجلبها من المصنع اليوناني مارانجاكس المجاور إلا إنه يعتبر نموذجاً في صناعة الخزف الفني. وقد تولى مدرس الزخرفة الإسلامية -الفرنسي اﻷصل- والذي كان يعمل في مدرسة الفنون الجميلة وبعض المساعدين معه تعليم الطلاب رسم الزخارف العربية باﻷلوان الزيتية على الفخار. لكن المشروع لم يستمر طويلاً، فقد تعثرت أعماله وأغلق في مطلع الثلاثينيات ولم يجد من يتولى إدارته فتقرر هدمه في منتصف العقد. لكن تلك قصة أخرى.

المراجع:

  • مصطفى الرزاز، كتاب (الفن المصري الحديث في القرن العشرين)، تأليف ، طبع قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، عام 2007
  • محمود عبد العال، رسالة دكتوراه “الجانب الابتكاري للمدرسة الإلهامية وآثارها التربوية في تدريس النجارة في التعليم العالي”، مقدمة إلى كلية التربية الفنية ، جامعة حلوان 1975م ، غير منشورة .
  • إيمان مهران، كتاب (روائع خزفية)، دار اﻷنجلو المصرية، 2014. الفصل الثاني (فن الخزف)
  • Rawi: Egypt’s Heritage Review – Issue No. 8 – Fall 2016 – Egyptian Modern Art 1900 – 1970 – p. 4 from the right , P. 18 from the left

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s